منوعات

الذكاء الاصطناعي في استكشاف المحيطات: الغوص في الأعماق الرقمية

لطالما كانت المحيطات تمثل اللغز الأكبر على كوكبنا، فهي تغطي أكثر من 70% من سطح الأرض، ومع ذلك، لم يتم استكشاف سوى 5% منها فقط. تخفي هذه المساحات الشاسعة كائنات غريبة، وتيارات خفية، وآثارًا غارقة لماضي البشرية. ورغم تقدم التكنولوجيا، فإن استكشاف هذه العوالم لا يزال محفوفًا بالمخاطر، نظرًا للضغط الهائل في الأعماق، وظروف الإضاءة المنعدمة، والمسافات الشاسعة التي يتعذر على الإنسان قطعها بسهولة.

في هذا المشهد الغامض، ظهر الذكاء الاصطناعي ليغير قواعد اللعبة، موفرًا أدوات تحليلية متطورة وروبوتات قادرة على الغوص إلى أماكن لم يصلها البشر من قبل. فكيف يساعد الذكاء الاصطناعي في فتح أبواب المجهول؟ وما هي أبرز تطبيقاته في دراسة الحياة البحرية، وتتبع التغيرات المناخية، والبحث عن الكنوز المغمورة؟

الذكاء الاصطناعي ودراسة الحياة البحرية

رسم رقمي يعرض دراسة الذكاء الاصطناعي للحياة البحرية، مع مركبات ذاتية القيادة تحت الماء، وأجهزة استشعار ذكية، وتحليل للأصوات البحرية، بالإضافة إلى مشهد يُظهر تعقب الحيتان الزرقاء.
صورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي عبر ChatGPT

تعد المحيطات موطنًا لأكثر من 80% من الكائنات الحية على كوكب الأرض، ومع ذلك، لم يتم توثيق سوى نسبة صغيرة من هذه الأنواع. في الماضي، كان العلماء يعتمدون على بعثات استكشافية تستغرق سنوات، يتخللها تحليل يدوي مضنٍ للبيانات المجمعة. أما اليوم، فقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا أساسيًا في هذا المجال، إذ يساعد على تحليل كميات هائلة من البيانات التي تجمعها الكاميرات تحت الماء، والمستشعرات الذكية، والمركبات الذاتية القيادة.

في الولايات المتحدة، استخدمت مؤسسة NOAA (الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي) الذكاء الاصطناعي في مشروع Deep Sea Coral & Sponge Exploration، حيث قامت روبوتات مزودة بكاميرات عالية الدقة ومسجلات صوتية بتحليل أعماق خليج المكسيك. ساعد الذكاء الاصطناعي في التعرف على أنواع جديدة من الشعاب المرجانية والإسفنج البحري، مما أدى إلى توسيع مناطق الحماية البحرية.

ولا يتوقف دور الذكاء الاصطناعي عند الرؤية فقط، بل يمتد إلى الصوت أيضًا. فكثير من الكائنات البحرية، مثل الحيتان والدلافين، تعتمد على الأصوات للتواصل والتنقل. لكن مع تزايد النشاط البشري تحت الماء، ازدادت الضوضاء الصناعية التي تؤثر على هذه الأنواع. في كندا، استخدمت مجموعة باحثين من جامعة دالهوزي الذكاء الاصطناعي لرصد وتحديد مواقع الحيتان الزرقاء في المحيط الأطلسي، مما ساعد في اتخاذ تدابير لحمايتها من السفن التجارية التي تشكل خطرًا على مسارات هجرتها.

الذكاء الاصطناعي والتغيرات المناخية تحت الماء

رسم رقمي يُظهر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مراقبة التغيرات المناخية تحت الماء، مع طائرات مسيرة تراقب الشعاب المرجانية، وتقنيات لتنظيف المحيطات من النفايات البلاستيكية.
صممت عبر تطبيق ChatGPT

المحيطات ليست مجرد مسطحات مائية ضخمة، بل هي العامل الأساسي في تنظيم المناخ العالمي. تمتص المحيطات أكثر من 90% من الحرارة الزائدة الناتجة عن الاحتباس الحراري، مما يؤثر بشكل مباشر على أنماط الطقس، وارتفاع منسوب البحار، وحالة الشعاب المرجانية.

في أستراليا، اعتمدت منظمة Great Barrier Reef Foundation على الذكاء الاصطناعي لمراقبة الشعاب المرجانية في الحاجز المرجاني العظيم، حيث تم استخدام طائرات مسيرة مزودة بخوارزميات تحليل صور متقدمة للكشف عن تأثيرات التغير المناخي وتحديد المناطق التي تحتاج إلى جهود استعادة. أسفرت هذه التقنية عن اكتشاف بقع تبييض غير معروفة سابقًا، مما سمح بوضع خطط إنقاذ سريعة.

بالإضافة إلى ذلك، يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في مكافحة التلوث البحري. في هولندا، قامت منظمة The Ocean Cleanup باستخدام الذكاء الاصطناعي لرصد وتحليل مواقع تجمع النفايات البلاستيكية في المحيط الهادئ. بفضل تحليل البيانات عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة، تمكنت المنظمة من إزالة أكثر من 100 طن من البلاستيك العائم، مما يعد خطوة هامة نحو تنظيف المحيطات.

الذكاء الاصطناعي وتوقع الكوارث البحرية

غرفة تحكم مستقبلية تطل على المحيط، مليئة بالشاشات عالية التقنية التي تعرض تنبؤات الذكاء الاصطناعي حول التسونامي والأعاصير. يعمل العلماء والمهندسون على تحليل بيانات الأقمار الصناعية، بينما تعرض الشاشات الكبيرة قراءات زلزالية وحركة المحيط في الوقت الفعلي. الأجواء متوترة مع ظهور تنبيهات الطوارئ وخطط الإجلاء على الشاشات
غرفة تحكم تطل على المحيط، تعرض شاشاتها بيانات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالكوارث البحرية، حيث يعمل العلماء على تحليل المعلومات وإرسال التحذيرات المبكرة.

أصبح الذكاء الاصطناعي أداة حيوية في التنبؤ بالكوارث البحرية مثل التسونامي والأعاصير، من خلال تحليل بيانات الأقمار الصناعية والمستشعرات البحرية. تعتمد هذه الأنظمة على خوارزميات متطورة لرصد التغيرات الطفيفة في الزلازل والتيارات، ما يسمح بإرسال تحذيرات مبكرة تقلل الخسائر البشرية والمادية.

في اليابان، أدى اعتماد الذكاء الرقمي بعد كارثة تسونامي 2011 إلى تطوير نظام متصل بشبكة DONET لمراقبة الزلازل البحرية. في عام 2016، تمكنت هذه التقنية من تحذير السكان قبل 30 دقيقة من وصول موجات تسونامي بعد زلزال كوماموتو، ما ساهم في عمليات إجلاء ناجحة. أما في إندونيسيا، فقد استخدمت الحكومة الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع وكالة BMKG (وكالة الأرصاد الجوية والجيوفيزيائية الإندونيسية) لرصد تحركات القشرة الأرضية تحت المحيط، مما مكنها من تقليل وقت التحذير من موجات التسونامي من 40 دقيقة إلى 15 دقيقة فقط.

البحث عن الآثار الغارقة

صورة مولدة عبر تطبيق ChatGPT

لطالما كان العثور على حطام السفن القديمة والمواقع الأثرية المغمورة بالمياه تحديًا صعبًا نظرًا لعمقها الشديد وظروفها القاسية. ومع ذلك، فقد أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في هذا المجال، حيث باتت الروبوتات المجهزة بتقنيات التعلم الآلي قادرة على استكشاف الأعماق بدقة عالية.

في إيطاليا، تعاونت جامعة روما مع المعهد الوطني لعلوم البحار على استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد مواقع السفن الغارقة من الحقبة الرومانية في البحر الأبيض المتوسط. استخدمت فرق البحث الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات الرادار والمسح الجيوفيزيائي، مما أدى إلى العثور على بقايا سفن تجارية تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد.

وفي كولومبيا، تمكن روبوت AI BOB في عام 2019 من العثور على سفينة San Jose الغارقة منذ القرن السابع عشر قبالة سواحل البلاد. لم يكن هذا الاكتشاف مجرد ضربة حظ، بل كان نتيجة خوارزميات متقدمة قامت بتحليل البيانات الجيولوجية، وأنماط التيارات البحرية، والسجلات التاريخية، مما مكن الروبوت من تحديد موقع السفينة بدقة.

التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في استكشاف المحيطات

رغم التقدم الهائل الذي أحرزه الذكاء الاصطناعي في استكشاف المحيطات، إلا أنه لا يزال يواجه العديد من التحديات التي تعيق تطوره الكامل في هذا المجال. أحد أبرز هذه التحديات هو التكلفة العالية، حيث يتطلب تطوير الروبوتات المتخصصة وصيانتها استثمارات ضخمة تجعل من الصعب على العديد من المؤسسات تبني هذه التقنيات على نطاق واسع. بالإضافة إلى ذلك، تشكل البيئات البحرية القاسية عقبة كبيرة، فالأعماق الشديدة تفرض ضغطًا هائلًا على المعدات، كما أن التيارات القوية قد تعيق حركة الروبوتات وتؤثر على دقة بياناتها.

على سبيل المثال، في النرويج، واجه مشروع Eelume – وهو روبوت مصمم للصيانة التحت مائية – تحديات كبيرة بسبب التيارات القوية في بحر الشمال، مما استدعى تطوير أنظمة ملاحة أكثر تطورًا لضمان استقراره. أما في الولايات المتحدة، فقد واجه مشروع دراسة خندق ماريانا صعوبات في إرسال البيانات مباشرة من الأعماق، ما اضطر العلماء إلى تطوير تقنيات تخزين وتحليل البيانات على متن الغواصات الذكية قبل إرسالها إلى السطح.

بينما لا يزال أمامنا طريق طويل لفهم المحيطات بالكامل، فإن الذكاء الاصطناعي بلا شك قد أصبح المفتاح الرئيسي لكشف ألغازها. من دراسة الحياة البحرية، إلى رصد التغيرات المناخية، وحتى البحث عن الكنوز المغمورة، أحدث الذكاء الاصطناعي تحولًا جذريًا في الطريقة التي نستكشف بها أعماق المحيطات. ومع التطورات المستمرة، قد يأتي يوم تصبح فيه الروبوتات الذكية أعيننا الحقيقية في عوالم البحار المجهولة.

لقراءة المزيد للكاتبة اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى