اعادة احياء اصوات من رحلوا بواسطة الذكاء الاصطناعي ،بين الذاكرة والاخلاق

في عصرٍ لم يعد فيه الموت نهايةً مطلقة، يقف الذكاء الاصطناعي كقوةٍ خفية تُعيد تشكيل مفهوم الذاكرة والغياب. اصواتٌ رحلت عن هذا العالم تُبعث من جديد، تنطق، تغني، تخاطب الأحياء، وكأنها لم تفارقهم يومًا. ليست هذه مجرّد أصداء ماضٍ يُعاد إنتاجه، بل هو امتداد رقمي لحياةٍ انطفأت، ترفض أن تُنسى. الفنانون الذين ملأوا العالم بموسيقاهم، الشهداء الذين خُلّدت كلماتهم، الأحبة الذين حملنا ذكراهم في القلوب، باتوا يعودون بصوتٍ مطابقٍ للواقع، كما لو أن الموت لم يكن سوى مرحلة مؤقتة يمكن تجاوزها بخوارزمية ذكية.
لكن هذه القدرة ليست مجرد تقدمٍ تقني، بل تغييرٌ جذري في علاقتنا مع الفقدان، مع الحنين، مع الحقيقة نفسها.تثير هذه التكنولوجيا تساؤلات أخلاقية وقانونية حول حقوق الخصوصية، الاستغلال، والتلاعب بالذكريات. هل استخدام صوت الراحل دون إذنه يعد انتهاكًا لحقوقه؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين تكريم الذكرى واستغلال الإرث؟ هذه الأسئلة تبرز الحاجة إلى تطوير قوانين تنظم استخدام هذه التقنيات وتضمن حماية الحقوق الشخصية والوراثية.
العناوين
التكنولوجيا: كيف يتم إحياء الأصوات؟
آلية عمل الذكاء الاصطناعي في تقليد الأصوات.

يعتمد الذكاء الاصطناعي في محاكاة الأصوات على خوارزميات متقدمة تقوم بتحليل كميات ضخمة من البيانات الصوتية. غالبًا ما يستخدم الذكاء الاصطناعي الشبكات العصبية العميقة، مثل الشبكات العصبية المتكررة (RNNs)، وكذلك المحولات الحديثة، لتعلم العلاقة بين الموجات الصوتية والنصوص المقابلة لها. العملية تتضمن مرحلتين رئيسيتين: الأولى هي النمذجة الصوتية التي تركز على ربط الحروف أو الرموز بخصائصها الصوتية، والثانية هي تحويل النص إلى كلام باستخدام هذا الربط لإنشاء موجات صوتية جديدة. تبرز المحولات هنا بقدرتها على فهم العلاقات بعيدة المدى بين النص والصوت، مما يُنتج كلامًا أكثر طبيعية وواقعية. مع تقدم تقنيات مثل التدريب المعادي، تحسنت جودة الصوت الاصطناعي ليصبح أكثر تشابهًا مع الصوت البشري الحقيقي، مما يتيح للذكاء الاصطناعي إنتاج أصوات قريبة للغاية من الأصوات البشرية الأصلية.
استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق (Deep Learning) لتحليل الأصوات.
هي أحد فروع الذكاء الاصطناعي التي تتيح للآلات تحليل البيانات وفهمها بطريقة مشابهة للدماغ البشري.
يتم تحليل وإعادة إنتاج الأصوات عبر:

- تجميع البيانات الصوتية: يتم جمع تسجيلات صوتية للشخص المطلوب إعادة صوته، سواء من مقابلات، أغاني، خطب، أو أي مصدر متاح.
- تحليل الصوت: يتم تفكيك الصوت إلى عناصره الأساسية مثل التردد، النبرة، وطريقة النطق لكل شخص.
- تدريب النموذج: تُدرَّب الشبكات العصبية على هذه البيانات لاستخراج الخصائص الصوتية الفريدة، مما يسمح لها بتكرار الصوت بدقة كبيرة.
- إعادة الإنتاج: بعد التدريب، يصبح النموذج قادرًا على إنتاج صوت مطابق للشخص، حيث يمكنه نطق جمل جديدة بصوته حتى لو لم يكن قد قالها من قبل، باستخدام نماذج تحويل النص إلى كلام (Text-to-Speech – TTS).
تطبيقات تقنية إحياء الأصوات في الفن والمجتمع
أ- في القضايا الإنسانية: شهداء فلسطين نموذجًا
استُخدم الذكاء الاصطناعي بشكل مثير للجدل لإعادة إنتاج أصوات الشهداء الفلسطينيين في غزة، لا سيما في عروض قناة الجزيرة. هذه التقنية، التي يُرجّح أنها تعتمد على توليف صوتي مُزوّر مُدرّب على تسجيلات صوتية موجودة، تُتيح للعائلات والجمهور سماع صوت المتوفى افتراضيًا مرة أخرى، مما قد يُتيح لهم الشعور بالطمأنينة وحفظ ذكرياتهم. بالنسبة للعائلات الثكلى، قد يُوفر هذا الأمر رابطًا عاطفيًا قويًا مع أحبائهم، مُخففًا بذلك صدمة الفقد الدائمة.
مع ذلك، تبرز آثار أخلاقية كبيرة، حيث يمكن إساءة استخدام التقنية لإنشاء رسائل مزيفة أو التلاعب بالرأي العام. كما أن خلط الواقعي بالاصطناعي قد يسبب ضيقًا نفسيًا للمتأثرين بفقدان أحبائهم. الصوت المُولد يفتقر لتفاصيل التجربة الحقيقية، ويمكن استغلاله لأغراض سياسية، مما يزيد التوترات. رغم أنه يمثل شكلًا من أشكال التذكر، فإن هذه التقنية تثير تساؤلات حول مصداقية الذاكرة وحدود استخدامها في سياقات حساسة مثل الحرب والفقد.
ب- في المجال الفني: إحياء إرث الفنانين الراحلين
تُحدث تقنية إحياء الصوت بالذكاء الاصطناعي ثورةً في صناعة الموسيقى من خلال تمكينها من إعادة إنتاج الأداء الصوتي للفنانين الراحلين. تُحلل هذه التقنية التسجيلات الموجودة لتعلم الفروق الدقيقة في صوت المغني، بما في ذلك طبقة الصوت، وجرس الصوت، وأسلوبه الصوتي، مما يُنتج فعليًا “نسخة” رقمية قادرة على غناء مواد جديدة أو حتى إعادة إتقان مقطوعات قديمة. تخيّل سماع أغنية جديدة لعبد الحليم، مُكتملة بإيقاعه المميز وعباراته، مُبتكرة باستخدام الذكاء الاصطناعي. وبالمثل، يُمكن تطبيق هذه التقنية على أم كلثوم الأسطورية، مما يسمح للجمهور بتجربة صوتها الأيقوني في سياقات موسيقية جديدة تماماً،
بينما يرى البعض في هذه التقنية وسيلة للحفاظ على الإرث الفني وابتكار تجارب جديدة للمعجبين، تثير مخاوف أخلاقية وقانونية حول حقوق النشر وموافقة الفنان بعد وفاته، واحتمال استغلال صورته وصوته. قد تؤدي هذه التقنية مستقبلاً إلى تعاونات جديدة بين الفنانين الأحياء والراحلين، أو لم شمل فرق موسيقية قديمة رقمياً، مما يُطمس الحدود بين الملكية الإبداعية. ومع ذلك، قد يؤدي ذلك إلى تشبع السوق بالمحتوى المُولد بالذكاء الاصطناعي، مما يؤثر على الموسيقيين الأحياء ويقلل من قيمة الفن الأصيل. تأثيرها طويل المدى على صناعة الموسيقى ما يزال غير واضح.
التحديات والمخاطر المحتملة
أ- إمكانية تزوير الأصوات واستخدامها في الأخبار المزيفة والتلاعب الإعلامي

يثير ظهور الذكاء الاصطناعي المتطور احتمالاتٍ مُرعبة فيما يتعلق بالتلاعب بالرأي العام. يمكن لهذه التقنية أن تُصنّع أصواتًا واقعيةً مقنعةً لأفرادٍ متوفين، من شخصياتٍ تاريخيةٍ إلى أحبائهم. يُمكن استغلال هذه التقنية، المُستخدمة بشكلٍ خبيث، في إنشاء مقاطع فيديو مُزيفة لأغراض الدعاية السياسية أو حملات التضليل للتأثير على الرأي العام أو تشويه السمعة. سيكون التأثير على ثقة الجمهور في وسائل الإعلام والروايات التاريخية عميقًا، حيث يُمكن التشكيك في صحة أي تسجيل صوتي، مما يُعرّض الجمهور للتلاعب ويُقوّض الحقائق الراسخة..
ب- هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلق نسخًا رقمية تحلّ محل الأصليين
تسمح هذه التقنية بتوليد صوت جديد يشبه الصوت الأصلي إلى حد كبير، مما قد يؤدي إلى إنشاء نسخ رقمية للاستخدام في سياقات مختلفة، مثل الكتب الصوتية والأفلام الوثائقية، أو حتى الرسائل الشخصية. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة. تعتمد جودة الصوت المُركّب بشكل كبير على كمية وجودة بيانات التدريب؛ فالتسجيلات المحدودة و رديئة الجودة تؤدي إلى نتائج غير طبيعية أو غير مقنعة
تأثير ذلك على المفاهيم التقليدية للموت والحداد

تُشكّل قدرة الذكاء الاصطناعي على إعادة إحياء أصوات المتوفين تحديًا عميقًا للمفاهيم التقليدية حول الموت والحداد. فلم يعد الراحل محصورًا في الذكريات، بل يمكن أن يظل حاضرًا بشكل جزئي من خلال صوته المُعاد توليفه. ومع ذلك، تثير هذه التكنولوجيا مجموعة من الأسئلة الأخلاقية والنفسية. فالصوت المُستنسخ قد لا يكون تمثيلًا دقيقًا للمتوفى، مما يخلق تساؤلات حول أصالته وقد يُثير توقعات غير واقعية أو صورة مثالية للماضي. هذه التقنية قد تزعزع الحدود بين التذكر والاستبدال، مما قد يعوق الحزن الطبيعي والقبول و المخاوف من التأثير العاطفي إذا تم اعتبار الصوت الاصطناعي خيانة للذكرى الحقيقية وخلق سوق “للحزن الاصطناعي”
البعد القانوني: من يملك حقوق صوت الراحل؟
قوانين حماية البيانات الشخصية وحقوق الورثة في التحكم بأصوات ذويهم.

في الاتحاد الأوروبي، يحمي النظام العام لحماية البيانات (GDPR) البيانات الشخصية، لكن هذه الحماية تنتهي بوفاة الشخص. ومع ذلك، بعض الدول توفر تشريعات لحماية الأصوات ضمن حقوق البيانات الشخصية أثناء حياة الشخص.
حقوق الورثة في التحكم بأصوات ذويهم بعد الوفاة تعتمد على القوانين المحلية لكل دولة، حيث تختلف التشريعات المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية، وحق الدعاية (Right of Publicity)، والخصوصية. ومع تطور تقنيات استنساخ الأصوات بالذكاء الاصطناعي، أصبح هناك فراغ قانوني يتطلب تنظيمًا واضحًا لمنع الاستغلال غير المشروع. بين الذكرى والتكنولوجيا، إلى أين نحن ذاهبون؟
بين الذكرى والتكنولوجيا، إلى أين نحن ذاهبون؟
تُشكّل قدرة الذكاء الاصطناعي على إحياء أصوات الموتى، سواءً كانوا فنانين أو شهداء، مشهدًا أخلاقيًا وتكنولوجيًا مُعقّدًا. فبينما تُتيح هذه التقنية سبيلًا مؤثرًا لإعادة التواصل مع الماضي، والحفاظ على الإرث الفني، وإبراز الأصوات المهمّشة، إلا أنها محفوفة بالتحديات. فالتحريف، وإمكانية الاستخدام الخبيث، وطمس الخطوط الفاصلة بين التعبير الحقيقي والتقليد الاصطناعي، تتطلب دراسةً متأنية. وتُعدّ أساليب التحقق الفعّالة، والمبادئ التوجيهية الأخلاقية الصارمة المتعلقة بإنشاء المحتوى وتوزيعه، والحوار العام المفتوح، حلولًا حاسمة للحدّ من المخاطر. وفي نهاية المطاف، يُعدّ التطوير والنشر المسؤولان أمرًا بالغ الأهمية لتسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي مع الحماية من الاستغلال وضمان تخليد ذكرى من فقدناهم باحترام.